العلوم العصبية وجحا والشارع السياسي


لايزال الغموض يكتنف ظاهرة  العقل على الرغم من الجهد الحثيث لتفسيرها مرة من الفلسفة ومرة من العلوم النفسية ومرة من علوم المخ والبيولوجيا.

أبسط تعريف للعقل هو أدقها على الإطلاق..فالعقل هو "مجموعة معقدة من الوظائف المعرفية للمخ".
ولكن الثقافة المعاصرة تستخدم مفهوم العقل استخدامات عديدة خارج سياق التعريف السابق..ولتوضيح هذا على غرار المقولة الشهيرة "بالضد تتباين الأشياء" يمكننا استخدام مفهوم العقل مثلا كالآتي:

العقل في مقابل القلب والعاطفة..(فالعقل هنا معناه المنطق السليم والتفكير )
العقل في مقابل الجهل..(وهنا معناه التعلم والمعرفة)
العقلانية في مقابل الرجعية..(وهنا معناه العقل المستنير التقدمي)
العقل في مقابل المخ..(وهنا معناه الوظيفة النفسية المسماة بالعقل على عكس المخ المادي المحسوس)
العقل في مقابل النص أو النقل (وهنا معناه الاستنتاج البشري على عكس النص الديني مثلا)

نلاحظ أن كل مفهوم من المفاهيم السابقة لا يعني العمليات المعرفية في حد ذاتها بقدر ما يعني "استخدامها" في مجال بعينه..ولكن هل توجد مشكلة في هذا؟؟
نعم هناك مشكلة بالطبع وهذا المقال هدفه القاء الضوء على أحد هذه المشاكل.

هناك مشكلة في أن العمليات المعرفية الموجودة بالمخ والمعروفة ب"العقل" يستخدمها كلا طرفي الأمثلة المتقابلة السابقة..... العقلاني والعاطفي...المتعلم والجاهل..التقدمي والرجعي..المجتهد في الفقه والمتمسك بالنص..كل هؤلاء يستخدمون نفس العمليات وبنفس الطريقة وبنفس المناطق بالمخ!

الفرق ليس في عملية "العقل" إذن..الفرق في توجيه العملية العقلية في اتجاه دون آخر..
من يوجه ويتحكم؟؟
هل هو العقل نفسه؟ هذا غير منطقي ويسمى "منطق دوراني" حيث السبب هو النتيجة..لابد من شيء آخر يحتل غرفة التحكم ويديرها.

الإجابة التلقائية لهذا السؤال هي "القلب"...ولكن هذه الإجابة سخيفة وثقيلة الدم على ثقافة وحضارة معاصرة تمجد العقل وإنجازاته ويكاد يكون إله يعبد من دون الله..
الثقافة المعاصرة لا تقبل بوضع العقل في مرتبة أقل... ومجرد التفكير بهذا ذنب لا يغتفر ويهاجم بانطباعات سلبية من "رجعية..تخلف..لا عقلانية" وغيرها الكثير.

بغض النظر..هل هذه الاجابة سليمة علميا؟؟أول من تجرأ للإجابة على هذا السؤال عالم برتغالي الأصل يدعى "أنتونيو دماسيو"..كان لدماسيو "طبيب المخ والأعصاب" مريضا تعرض لإصابة في المخ تغيرت على إثرها حياته بشكل مثير بعض الشيء..
فقد أصبح مقامرا ومجازفا ويخسر الكثير دون توقف..يبادر إلى بعض القرارات دون تروي أو حساب لمدى الخسارة الحاصلة..هذا الرجل له معامل ذكاء ممتاز وعملياته العقلية سليمة..ما المشكلة إذن؟؟؟

عندما وجد دماسيو العطب الموجود بالمخ في منطقة مسئولة عن الشعور بالتغيرات الجسدية المصاحبة للعواطف المختلفة مثل خفقان القلب واحمرار الوجه..استنتج أن المشكلة لا تكمن في عقل المريض ولا في مشاعره ولكن تكمن في تفاعل الاثنين مع بعضهما والذي يحدث في المنطقة التي أصابها العطب.
عندما يقامر المريض فإنه لا يصل إلى "عقله" تحذير "القلب" لعواقب الخطوة القادمة..فيقامر بافراط ويخسر.
فقد المريض القدرة على الحكم على الأمور بقدان اتصال عقله بقلبه..برغم ذكائه.
سمى دماسيو هذه النظرية بنظرية "العلامة الجسدية" وادعى أن العملية العقلية يتم صبغها بلون أو علامة لتحديد الفكرة المناسبة النهائية..هذه العلامة عاطفية من مراكز الشعور والعاطفة بالمخ وهذا التفاعل في الأعم الأغلب يتم بدون وعي الفرد بهذا (يحدث في اللا وعي إن شئت تسميتها).
شرح دماسيو نظريته في كتاب أسماه "خطأ ديكارت" ونال هذا الكتاب شهرة واسعة بعدها..سبب التسمية أن ديكارت فصل تماما بين العقل والجسد وأنه لا علاقة لأحدهما بالآخر..وهذا جوهر مقولته الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود"

العقل ليس في غرفة التحكم..وليس "الكل في الكل" بالتعبير المصري الدارج

إسقاط هذا كله على الواقع الحياتي هو غاية ما أهدف إليه بهذه الكلمات التي قد تكون عانيت من الأسلوب المعقد لصياغتها.

  • أتمنى أن تكون الكلمات غيرت مفهوم النقاش الجدلي "الذي نقوم به يوميا في انتخابات الرئاسة" مثلا..
فكل فرد يصب عواطفه على اختيار ما وتتلون عملياته العقلية به...وتتبارز العمليات العقلية بين المتناقشين ولكن دون جدوى..لأن للطرفين منطق شكليا سليم..ولكل طرف لون عاطفي يلون أفكاره به..وجوهر المناقشة عموما هو تفنيد أي المنطقين خطأ..ولا يوجد خطأ في الاثنين..إذا أردت أن تغير من موقف شخص..غير قلبه لا تختبر صحة منطقه كما (كما هو الحال في معظم النقاشات)
أتذوق مع هذه المعلومات عظمة وعمق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً. رواه أبو داود وحسنه الألباني."


  • أتمنى أن تكون رؤيتك لقصة جحا وولده والحمار الشهيرة قد ازدادت عمقا..

فالناس اعترضت عندما ركب جحا وابنه معا على الحمار..واعترضت إذا ركب أحدهما فقط..واعترضت إذا لم يركب أحد وحمل الحمار بنفسه
رفض الناس لكل الأوضاع التي يستخدم جحا فيها الحمار نابع من عاطفة سلبية من الناس تجاه جحا والحمار..ربما حسدا على الحمار أو على ابنه!! وفي كل اعتراض للناس على أحد استخدامات الحمار له منطقه السليم.."حرام يبهدل الحمار..راجل مفتري مبهدل ابنه..ابن قليل الذوق بيتعب أبوه..سوء استغلال للموارد"
وكذلك الحال في مصر.."الاخوان نزلو الميدان..دول بيستغلوا الفرصة"... "الاخوان منزلوش..بياعين وبتوع مصالحهم" وعلى الجانب الآخر "البرادعي اترشح للرئاسة..شوف بيركب على الثورة هو كان نزل ولا هبب حاجة".... "البرادعي انسحب...ماهو لئيم وعارف إنها مش جايبة همها المرة دي"
  • وأخيرا أتمنى أن أكون قد ازداد فهمك لآيات القرآن الكريم:
"فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"
"فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يكفرون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا بهم يستهزئون"
"فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحمون"
"وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون"

0 التعليقات: