الفكر العلمي عند المسلمين



نظرا لدراستي العلمية فإن علاقتي بالكتب الأدبية والتاريخية علاقة ليست بالعميقة ولكن
بين الحين والحين أعمق هذه العلاقة ما استطعت..رزقني الله كتابا غاية الروعة عن تاريخ العلم عند المسلمين "تطور الفكر العلمي عند المسلمين" وكاتبه الدكتور محمد الصادق عفيفي, رزقه الله ثواب عمله المفيد.

ما أذهلني حقا عن علماء وعلم هذه الحضارة شيئين
أولهما: سلوك طلب العلم عندهم مدهش..يكاد يكون طلب العلم غريزي
وثانيهما: كم كان العلم عندهم ممزوج بثقافتهم وعقيدتهم..كان العلم مع غيره مصهورا صهرا, مكونا نتاجا جد مبهر ومشرف ومفيد, لم يكن العلم كما هو عندنا الآن دينا منفصلا مغلفا تحتاج أن تفصل نفسك فيه عن حاضرك وحضارتك وتتجرد فيه عن موروثاتك..كان العلم عندهم موجها لمشاكلهم التي لم تكن جميعها دنيوية وحاضرة, لكن تجدهم يطوعون عقولهم أيضا وعلومهم لخدمة دينهم "كالاجتهاد في تحديد أوقات الصلاة مثلا"..وكانت الدافعية للعلم عندهم لا تخلو من اعتقادهم بثواب من الله على عملهم.
لا أعلم كيف وفقهم الله لهذا النتاج المبهر ولكن على الأقل ما يعنيني الآن أنه من الممكن حصوله وأنه ينبغي علينا محاولة هذا غير تاركين لما ورثناه من دين وحضارة وقيم.

أود أن أسوق بعض المقتبسات عن علماء هذا العصر..مصدري لها هو كتاب الدكتور محمد الصادق عفيفي

أولا: غريزية طلب العلم


دخل ذات مرة صديقا للبيروني بعمل قاضيا يعوده وهو يجود بنفسه وحشرجت أنفاسه وضاق بها صدره , وكان في تمام وعيه, فقال له: كيف قلت لي يوما حساب الجدات الفاسدة؟ فقلت له: أفي تلك الحالة؟ قال لي: يا هذا, أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة. ألا يكون ذلك خير من أن أخليها وأنا جاهل بها, فأعدت ذلك عليه , وحفظه, وعلمني ما وعد وخرجت من عنده, وأنا في الطريق ما كدت أخطو بضع خطوات حتى سمعت الصراخ

روى احد تلاميذ البيروني: "كان من عادة شيخنا لاستاذ الرئيس. رحمه الله إذا آمر في كتبه من مؤامرات الأعمال لم يجيء بالمثال وإذا جاء على النذر اليسير منه جاء بالطريق المنغلقة, والألفاظ الفصيحة البعيدة عن الفهم, وسألته عن ذلك, فقال: سبب ذلك أني أخلي تصانيفي من المثالات ليجتهد فيما أودعته فيها من كانت له دربة واجتهاد, وهو محب للعلم, ومن كان من الناس على غير هذه الصفة فلست أبالي به فهم
أم لم يفهم فعندي سواء"

أبو عبد الله محمد بن جابر البتاني من علماء العصر العباسي ومن أعظم الفلكيين في الاسلام كتب معلقا على ما يقع من خطأ لعلماء الفلك "وأن الذي يكون فيها من تقصير الإنسان في طبيعته عن بلوغ حقائق الأشياء في الأفعال, كما يبلغها في القوة, يكون يسيرا غير محسوس عند الاجتهاد والتحرز, ولا سيكا في المدد الطوال, وقد يعين الطبع, وتسعد الهمة, وصدق النظر, وأعمال الفكر والصبر على الأشياء, وإن عسر ادراكها, وقد يعوق عن كثير من ذلك قلة الصبر ومحبة الفخر, والحظوة عند ملوك الناس, بإدراك ما لا يمكن إدراكه على الحقيقة في سرعة, أو إدراك ما ليس في طبيعته أن يدركه الناس لأن الحركات السماوية لا يحاط بها معرفة مستقصاه حقيقية, إلا بتمادي العصور والتدقيق في الرصد."

يقول ابن ابي صبيعة عن ابن الهيثم: "كان ابن الهيثم في أول أمره بالبصرة ونواحيها قد وزر (أصبح وزيرا), ولكن نفسه كانت تميل الى الفضائل والحكمة والنظر فيها, ويشتهي أن يتجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في العلم..., فاظهر خبالا في سلوكه حتى تمكن من ترك الخدمه"

ثانيا: تزاوج العقل والقلب والنظرة الشمولية للعلم والدين والدنيا

كتب البيروني في مقدمة كتاب له عن البصريات عن أبي الحسن بن الهيثم "فأما البحث عن النور الموجود وما يتعلق به وبعدمه المسمى ظلا بالعموم ومظلا بالخصوص, فهو من نوع التعاليم الرياضية التي تحصل بها أعراض كل مستند الى الدين معتضد بمنهاج الصراط المستبين, كالشيخ أبي الحسن في تحليله بهذه الصفات, قد اشتهر بفرط الإهتزاز لمعرفة أوقات الصلاة, وشدة الولوع بما يوقف بها عليها من الآلات اهتماما منه لسعادة العقبى, عندما أهله الله له من سعادة الأولى, تحمله على ارتياد الفضيلة بين السعادتين"


قال العالم ان حزم الأندلسي عن التنجيم: "زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع وهذه دعوى باطلة بلا برهان, وصحة الحكم: أن النجوم لا تعقل أصلا , وأن حركاتها أبدا على رتبة واحدة لا تتبدل عنها , وهذه صفة الجماد الذي لا اختيار له.., وليس للنجوم تأثير في أعمالنا ولا عقل تدبرنا به إلا إذا كان المقصود أنها تدبرنا تدبيرا طبيعيا كتدبير الغذاء لنا, وكتدبير الماء والهواء , ونحو أثرها في المد والجزر.. وكتأثير الشمس في عكس الحر وتصعيد الرطوبات, والنجوم لا تدل على
الحوادث المقبلة."

يعتبر ابن الهيثم أول من وضع طريقة علمية واضحة للبحث التجريبي.. وأركانها من وجهة نظره "الإستقراء
والقياس والمشاهدة والملاحظة والتجربة وتحري الحقيقة ومجانبة الهوى. وقد قال في العدل وطلب الحق ومجانب الهوى "ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل, لا اتباع الهوى. ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق, لا الميل مع الآراء...فلعلنا بهذا الطريق الى الحق الذي به يثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين, ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف, وتنحسم مواد الشبهات"


0 التعليقات: