لماذا كفروا؟

الإمام أبو حامد الغزالي أجاب على سؤال لماذا قد يكفر البعض مع أن حقيقة وجود الله تعالى جلية تماما؟
قال الغزالي ما مفاده:
أن ما لا يستوعبه العقل شيء من اثنين:
1)أن يكون الشيء نفسه غامض او غير معروف 
وهذا الاحتمال منطقي وواضح فلا أحد لا يستوعب ما لا يعرفه
2) أن يكون الشيء في قمة وضوحه وجلائه.
احتج الغزالي لهذه الفرضية الثانية كالآتي:
الشيء عموما يعرف أفضل بمقارنته بضده كالليل والنهار فمثلا لو كان اليوم كله نهارا لما اتضح لنا معنى الألوان والإضاءة, ولو لم يكن هناك قطب سالب لما كان هناك اي معنى واضح لما يسمى القطب الكوجب وأيضا في الإنسان كيف أعرف معنى ذكر مثلا إلا عند وجود الضد وهو الانثى.
سبب عدم إدراك بعض الناس لحقيقة وجود الله تعالى هو أن وجود الله تعالى لا ضد له لأنه لو وجد عدمه (تعالى الله) لهلكت السماوات والأرض لأنها قائمة به, فهذ سبب عدم ادراك هذه الحقيقة بالرغم من شدة وضوحها وبساطة استيعابها.
يقول الغزالي :
"
انظر كيف تصور استبهام امره بسبب ظهوره لولا طريان ضده؟
 فالله تهالى هو أظهر الأمور وبه ظهرت الأشياء كلها, ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير لانهدمت السماوات والأرض وبطل الملك والملكوت, ولأدركت بذلك التفرقة بين الحالين.
 ولو كان بعض الأشياء مجود به وبعضها موجوداً بغيره,لأدركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة.
 ولكن دلالته عامه في الأشياء على نسق واحد. ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه.
 فلا جرم أورثت شدة الظهور خفاء فهذا هو السبب في قصور الأفهام.
"

ملاحظاتي

عرض القرآن الكريم للأدلة
هذا ما قاله الغزالي, وبالنظر الى الآيات الداعية الى الإيمان بالله تعالى في القرآن تجدها لا تتوغل كثيرا في صياغة البراهين والدلائل الفلسفية والعقلية المعقدة, ولكن تجد الآيات تطلب مجرد التأمل والنظر في ما حول الإنسان
لاحظ الأفعال المستخدمة في الآيات:
"قل انظروا"  "أولم ير الذين كفروا" "ألم تر الى ربك كيف مد الظل" "أفلا تسمعون" "أفلا تبصرون"   وغيرها كثير. لاحظ أن الأفعال هي مجرد إحداث العملية الحسية لا أكثر في دلالة على شدة الوضوح وأنها معرفة أساسية أولية لا ناتجة عن عمليات عقلية وفكرية معقدة.
ما أفهمه فعلا من قرائتي للقران هو أن المسألة بسيطة واضحة ولكن المطلوب هو الإلتفات القلبي لمعنى أن الله موجود وهو الخالق وأنت عبدا له.

الانتباه الإنتقائي Selective Attention
ما أفهمه من تعلمي للعلوم العصبية أن الحواس ليست مجرد آلة لنقل المعلومات "مثل الكاميرا" ولكن الجهاز العصبي يقوم بالتركيز على ما هو مهم للكائن وهي خاصية تسمى بالانتباه الإختياري أو الإنتقائي, أحد الأجهزة المسئولة بشكل أساسي عن هذا هو الجهاز العاطفي بالمخ.
المشكلة مع الإيمان بالله من عدمه مسألة قلبية وليست عقلية بالمقام الأول, فهي تتوقف على مدى قبول الفرد لمبدأ أنه عبد وأنه سوف يحاسب على ما يفعل وما الى ذلك فإذا قبل عاطفيا هذا المبدأ فسوف يرى بالعملية الحسية البسيطة الدليل على وجود الله تعالى, وإن لم يقبل أن يكون عبدا لله تعالى وكان هذا مخلا بتوازنه العاطفي (وهذه حالة ما يسمى بالكبر) فلا دليل يمكن أن يقنعه تماما.

العقل الواعي جدل أنا لست مؤمنا..أقنعنيThe Conscious mind
مفهوم الانتباه الإنتقائي هذه يمكن اعتباره جزء من مفهوم أكبر نعرفه من علم النفس وهو العقل الواعي. من المعروف أن بعض الأفكار أو المبادئ يتم حجبها عن العقل الواعي لأنها ستكون مربكة جدا للإتزان النفسي.
 يمكن تفسير هذا المبدأ المجرد من علم النفس في ضوء العلوم العصبية الحديثة. إن الإنتقاء الذي يحدث لما يدخل الى العقل الواعي من أفكار ومعاتي يقوم به  الجهاز العاطفي بشكل كبير وأحد الادوات التي تقوم بهذا هو الانتباه الإنتقائي.
يجد الشخص الرافض عاطفيا لمبدأ وجود الإله صعوبة في الاقتناع بهذا, لأن ما يتناوله عقله من معطيات لا تؤدي الى حقيقة وجود الإله فعلا وذلك لأن ما يؤدي الى هذا الاعتقاد تمت تصفيته قبل أن يدخل الى عقله الواعي.
أعتقد أن هذا هو السبب وراء أن هناك من هو مقتنع تماما بأنه لا يوجد إله, فقد دور الأمر كثيرا في رأسه وهو صدقا ليس مقتنع, ولكن المشكلة تكمن في قلبه الذي يمد عقله بالمعطيات التي يمكن له أن يفكر فيها.
أعتقد أيضا أن هذا يوفر لي إجابة على السؤال: لماذا يدخل النار من لم يصدق (حتى بينه وبين نفسه غير مقتنع) بالله تعالى؟
لطالما كانت الإجابة نصب عيني ولكن بصورة بسيطة غير متكلفة وهي أن الإيمان مسألة قلبية لا عقلية  وأن استجابة القلب وقبوله لوجود إله هو السبيل لأن يجد الشخص ما يشبع عقله من دليل على وجود الله سبحانه وتعالى.

لكل هذا نجد ان الله تعالى أكد على أن البراهين والدلائل والحجج إنما هي مصاغة لمن يقبل قلبه هذا لا لمن أغلق قلبه فترتب على هذا الاغلاق عدم قدرة ادراكه العقلي على الشعور بهذه الحقيقة..حقيقة وجود الله تعالى.
 يقول الله تعالى "قل انظروا ما السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون" "لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها"  "ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يرجعون" أي مثل الحيوان الذي لا يسمعك إذا ناديته في تصوير قوي لمدى الإنصراف عن الفهم.

أمثلة أخرى لنفس العملية العصبية
هذه الحالة العاطفية الحسية موجودة في نواح كثيرة في الحياة وليس الإيمان بالله تعالى فقط, مثالا قويا ونراه يوميا هو تشجيع كرة القدم, ترى في غرابة أن مشجعي فريق ما لا يرون أي فضل للفريق الآخر وأنهم لا يجيدون شيئا وأن المسألة (حظوظ) وتراهم يرون مساوئ الفريق المنافس كثيرا وهم أكثر من يلتفت إليها وكذلك الأمر مع مشجعي الفريق الآخر وإذا كنت خارج مجال تشجيع أي من الفريقين ترى مدى مبالغة كلا الجانبين وحيوده عن الصواب إن لم يكن في المنطق فهو في اختيار مواضيع معينة وناقط محددة دون غيرها (وهي التي تتفق مع عاطفته من أن الفريق الآخر سيء وأن فريقه أفضل) وهو ناتج عن الانتباه الإختياري أو الإنتقائي. يكمن السبب وراء الميل العاطفي الموجه للعمليات الحسية والعقلية للإنسان فلا عجب أن يرى مشجع فريق الأهلى مثلا إن الزمالك ليس بالفريق الحسن تماما مثل الكافر لا يرى وجود الله فكرة صائبة مع العلم أن كلا منهما قد يصوغ لك عملية عقلية قد تبدو سليمة ولكن قلبك من يختار أي شيء وأي فكرة تركز عليها وتهمل غيرها.


ما هو مطلوب
إذن كل ما هو مطلوب هو الآتي
-استعداد عاطفي لقبول الفكرة 
وهذه مهمة الشخص
-وجود صياغة عقلية لأحد مظاهر وجود وقدرة الله سبحانه وتعالى.
وهذه هي مهمتنا نحن المسلمون, من عرض الدلائل العقلية وتطوير شكلها وعمقها تبعا للتغيرات الثقافية.

والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم

0 التعليقات: